فصل: تفسير الآية رقم (99):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
أخرج أبو الشيخ عن الضحاك {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا} يعني أنه لا يرجو له ثوابًا عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي ما يعطي من صدقات ماله كرهًا {ويتربص بكم الدوائر} الهلكات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا} قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب، الذين إنما ينفقون رياء اتقاء على أن يغزوا ويحاربوا ويقاتلوا، ويرون نفقاتهم مغرمًا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا} يعد ما ينفق في سبيل الله غرامة يغرمها {ويتربص} بمحمد صلى الله عليه وسلم الهلاك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
قوله تعالى: {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا}: {مَنْ} مبتدأ وهي: إمَّا موصولةٌ وإمَّا موصوفةٌ. ومَغْرَمًا مفعول ثانٍ لأنَّ اتخذ هنا بمعنى صَيَّر. والمَغْرَمُ: الخُسْران، مشتق مِنَ الغَرام وهو الهلاك لأنه سيئةٌ، ومنه {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]. وقيل: أصلُه الملازمةُ ومنه الغَريمُ للزومه مَنْ يطالبه.
قوله: {وَيَتَرَبَّصُ} عطفٌ على {يَتَّخِذ} فهو: إمَّا صلة وإمَّا صفة. والتربُّصُ: الانتظار. والدوائر: جمعُ دائرة، وهي ما يُحيط بالإِنسان مِنْ مصيبة ونكبة، تصوُّرًا من الدائرة المحيطةِ بالشيء من غير انفلاتٍ منها. وأصلها داوِرَة لأنها مِنْ دار يدور، أي: أحاط. ومعنى تربُّص الدوائر، أي: انتظار المصائب قال:
تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المَنون لعلها ** تُطَلَّقُ يومًا أو يموتُ حليلُها

قوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} هذه الجملةُ معترضة بين جمل هذه القصة وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا {السُّوء} وكذا الثانية في الفتح بالضم، والباقون بالفتح. وأما الأولى في الفتح وهي {ظنَّ السَّوْ} فاتفق على فتحها السبعة. فأما المفتوح، فقيل: هو مصدر.
قال الفراء: يقال: سُؤْتُه سُوْءًا ومَساءةً وسَوائِية ومَسَائِية، وبالضم الاسم قال أبو البقاء: وهو الضَّرر وهو مصدر في الحقيقة.
قلت: يعني أنه في الأصل كالمفتوح في أنه مصدرٌ ثم أُطْلِق على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: مَنْ فتح السينَ فمعناه الفساد والرداءة، ومَنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضرر.
وظاهر هذا أنهما اسمان لِما ذكر، ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدرًا ثم أُطْلِقا على ما ذكر. وقال غيرُه: الضموم: العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنه أْجُمع على فتح {ظَنَّ السوء} [الفتح: 6] وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] ولا يليق ذِكْرُ العذاب بهذين الموضعين.
وقال الزمخشري فأحسن: المضموم: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ لدائرة، كقولك: رجلُ سَوْء في نقيض رجل عدل، لأنَّ مَنْ دارَتْ عليه يَذُمُّها يعني أنها من باب إضافة الموصووف إلى صفته فوُصِفَتْ في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أُضِيْفَتْ لصفتِها كقوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28].
قال الشيخ: وقد حُكي بالضم.
وأنشد:
وكنت كذئبِ السُّوء لمَّا رأى دمًا ** بصاحبه يومًا أحال على الدَّم

وفي الدائرة مذهبان أظهرهُما: أنها صفةٌ على فاعِلة كقائمة. وقال الفارسي: إنها يجوز أن تكون مصدرًا كالعافية.
وقوله: {بِكُمُ الدوائر} فيه وجهان، أظهرهُما: أن الباء متعلقة بالفعلِ قبلها. والثاني: أنها حالٌ من الدوائر قاله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ، وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرر غير مرة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
خَبُثَت عقائدُهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المِحن بهم، فأبى اللهُ إلا أن يَحيقَ بهم مكرُهم، ولهذا قيل في المثل: إذا حَفَرْتَ لأخيك فَوَسِّعْ فربما يكون ذلك مقيلَك!
ويقال مَنْ نَظَر إلى ورائه يُوَفَّقْ في كثيرٍ من تدبيره ورأيه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (99):

قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما افتتح الآية الثانية بقوله: {ومن الأعراب من يؤمن} أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين {بالله واليوم الآخر} علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب: ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال: {ويتخذ} أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد {ما ينفق} أي فيما أمر الله به {قربات} جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه: {عند الله} أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم {وصلوات} أي دعوات {الرسول} أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئًا إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها.
ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفًا محققًا لرجائهم ترغيبًا في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب: {ألا إنها} أي نفقاتهم {قربة لهم} أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله: {سيدخلهم الله} أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه {في رحمته} أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله معبرًا بالاسم الأعظم تنبيهًا على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد: {إن الله} أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره {غفور} أي بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم} أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرمًا، بين أيضًا أن فيهم قومًا مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنمًا.
واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين:
فالأول: كونه مؤمنًا بالله واليوم الآخر، والمقصود التنبيه على أنه لابد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان، وفي الجهاد أيضًا كذلك.
والثاني: كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول، وفيه بحثان: الأول: قال الزجاج: يجوز في القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء، وإسكانها وفتحها.
الثاني: قال صاحب الكشاف: قربات مفعول ثان ليتخذ، والمعنى: أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم.
كقوله: «اللهم صل على آل أبي أوفى» وقال تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} فلما كان ما ينفق سببًا لحصول القربات والصلوات، قيل: إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات.
وقال تعالى: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} وهذا شهادة من الله تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه، وهو قوله: {أَلا} وبحرف التحقيق، وهو قوله: {إِنَّهَا} ثم زاد في التأكيد، فقال: {سَيُدْخِلُهُمُ الله في رَحْمَتِهِ} وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد.
ثم قال: {إنَّ الله غَفُورٌ} لسيآتهم {رَّحِيمٌ} بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات.
وقرأ نافع {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} بضم الراء وهو الأصل، ثم خففت نحو: كتب، ورسل، وطنب، والأصل هو الضم، والإسكان تخفيف. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم ذكر من أسلم من الأعراب جهينة وغفار وأسلم.
فقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ}
فى الجهاد {قربات عِندَ الله}، يعني: قربة إلى الله تعالى، {وصلوات الرسول}، يعني: طلب دعاء الرسول عليه السلام واستغفاره.
يقول الله تعالى: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ}، أي نفقاتهم قربة لهم إلى الله تعالى وفضيلة ونجاة لهم.
{سَيُدْخِلُهُمُ الله في رَحْمَتِهِ}، يعني: في جنته {أَنَّ الله غَفُورٌ} لذنوبهم، {رَّحِيمٌ} بهم قرأ نافع في رواية ورش {قُرْبَةٌ} بضم الراء، وقرأ الباقون بجزم الراء، ومعناهما واحد. اهـ.

.قال الثعلبي:

ثم استثنى فقال: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك: يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه.
وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله} جمع قرابة {وَصَلَوَاتِ الرسول} يعني دعاءه واستغفاره {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة.
{وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنها تقربة من طاعة الله ورضاه.
الثاني: أن ثوابها مذخور لهم عند الله تعالى فصارت قربات عند الله: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} فيها وجهان:
أحدهما: أنه استغفاره لهم، قاله ابن عباس.
الثاني: دعاؤه لهم، قاله قتادة.
{أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون راجعًا إلى إيمانهم ونفقتهم أنها قربة لهم.
الثاني: إلى صلوات الرسول أنها قربة لهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله} الآية.
قال قتادة: هذه ثنية الله تعالى من الأعراب، و{يتخذ} في هذه الآية أيضًا هي بمعنى يجعله مقصدًا، والمعنى ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم، فـ {صلوات} على هذا عطف على {قربات}، ويحتمل أن يكون عطفًا على ما ينفق، أي ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة، والأولى أبين، و{قربات} جمع قرْبة أو قرُبه بسكون الراء وضمها وهما لغتان والصلاة في هذه الآية الدعاء إجماعًا.
وقال بعض العلماء: الصلاة من الله رحمة ومن النبي والملائكة دعاء، ومن الناس عبادة، والضمير في قوله: {إنها} يحتمل أن يعود على النفقة وهذا في انعطاف الصلوات على القربات، ويحتمل أن يعود على الصلوات وهذا في انعطافه على ما ينفق، وقرأ نافع {قرُبة} بضم الراء، واختلف عنه وعن عاصم والأعمش، وقرأ الباقون {قرْبة} بسكون الراء ولم يختلف {قربات}، ثم وعد تعالى بقوله: {سيدخلهم الله في رحمته} الآية، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة وقاله مجاهد، وأسند الطبري إلى عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال: كنا عشرة ولد مقرن، فنزلت فينا {ومن الأعراب من يؤمن بالله} إلى آخر الآية.
قال القاضي أبو محمد: وقوله عشرة ولد مقرن يريد الستة أولاد مقرن لصلبة أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم. اهـ.